لبيك اللهم لبيك- رحلة الحج بين الشوق والقدسية في الشعر.

المؤلف: نجيب يماني09.09.2025
لبيك اللهم لبيك- رحلة الحج بين الشوق والقدسية في الشعر.

«لبيك اللهم لبيك».. يتردد صداها في الأجواء، تلك التلبية العظيمة، عنوان الاستسلام للمحبوب، وأمل المتوكل، وخشية الراجي، وانقياد المستجيب لأمر الله: «وأذّن في الناس بالحج».

انطلقوا من كل الدروب البعيدة، مشاة حفاة، وراكبين على ظهور النوق الضامرة، وممتطين الإبل المتعبة، يحدوهم الشوق إلى بؤرة النور، ومستقر الطمأنينة، وموطن الأمان والسلام.

إليك يا خالقي جئت ملبياً

فأكرم يا إلهي حجي وتقبّل رجائيا

أتيتك فقيراً وأقبلتُ منكسراً

وما كنتُ عبداً لدعائك ناسياً

يكفيني عزة أني لك خاضع

ويا سعدي إن أصبحت لك عبداً وتابعاً

هل رأيت في كل ضروب الفنون والآداب، وما نقش في السجلات، مؤلفات تفوق في حجمها ما سطر عن هذه الرحلة المباركة؟

فلا توجد رحلة نالت من التدوين، والتعبير عن المشاعر والأحاسيس، ما نالته رحلة الحجاج إلى بيت الله الحرام، والمشاعر المقدسة.

تأمل في هيامهم، وتوقهم إلى الحج وزيارة البيت العتيق، فإذا قصرت بهم الخطى، أرسلوا أشواقهم، وحلقوا بخيالهم، فما أعظم شوق «برعي اليمن»، الذي فاضت قريحته في قصيدته الخالدة:

يا قاصدينَ إلى منىً برفقتي

أثرتم لواعج الشوق في مهجتي

مضيتم وأناجي وحدتي يا حسرتي

والركب يثير في نفسي الذكرى

وستجد شبيه هذا الشوق عند الشاعر ابن دقيق العبدي:

تطرب روحي شوقاً وحنينا

كلما لاح بارق الحجاز لنا

ويذهب الوجد بلبي وعقلي

وقد غدا حسن التفكير لي عنواناً

هل لي نصيب في بلوغ منى

وأنحر الإبل السمينة هناك قربانا

فأرتوي من ماء زمزم العذب

فهو عندي أشهى من الشراب ريا

وتنقل بين جميل الكلام المنثور في عظيم ما كتب عن هذه الرحلة المباركة من عرب وعجم، قديماً وحديثاً، فإذا وصلت إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، فأنصت لما يقول:

لك الحمد يا رب الجموع جمعتها

لبيتك الطاهر الساحات والمقامات

ارى الناس مختلفين من كل صوب

اليك انتهوا من بعد شتات وتفرقة

تساووا لديك فلا فضل لأحد

ولا اختلاف في المقدور يا خالقي

وإذا أتاك الصوت من جهة الشام، فسيتردد صدى بدوي الجبل، بشعره الرائع:

فيا فؤادي إلى أرض محمد الأمين

أرض خصبة بالهداية وإن جدبت

هناك الكعبة المضيئة والوحي العطر

هناك النور فاستنفد روحك في حبها

ويا مهجتي بين الحطيم وزمزم

تركت دموعي تشفع لي عند ربي

وفي الكعبة المطهرة زينت تضرعي

وعطرت أبواب السماء توبتي

وتردد في الصحراء صداها

ألحاناً من الشوق العميق

إنه مقام واسع بديع، لن يمنعك عن مناهله العذبة العذاب، ولا عن مساقيه الغزيرة سوء المثل «يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق»..

فإذا تأملت في هذا المقام، واستشعرت قدسية المكان، وعظمة الشعيرة، فقد وقف «آخرون» لغرض آخر، فلم تحمهم القدسية وجلال الموقف من التفوه بالباطل، وإبداء المواقف الغريبة، فلا تعلم أتعجب مما أبدعوا، أم تستنكر ما اقترفوا..

وازن بين عفة نابغة ذبيان وتهتك عمر بن أبي ربيعة، فالأوّل تصبّر حين تعرض لفتنة إحدى النساء بسبب حرمة أشهر الحج، وقال:

حسناء كاملة الحسن

أجمل من نطق بالكلام

قالت: أراك كثير الترحال

تخوض المهالك

حياك ربي فإنه لا يحل لنا

العبث واللهو

نرجو الله والعمل الصالح

ما أرق شعره وأعذبه، و«أخبث» موقفه وأضله، مع ما في الدين من سعة، وفي رحمة الله من غفران.

أما صاحبه «ابن الملوّح» فقد تجاوز الحدود، وأضاف إلى الحج «ركنًا» من عنده، انظر إليه يقول:

إذا الحجاج لم يقفوا بليلى

فلا أرى لحجهم قبولاً

تمام الحج أن تحط الركاب

على ليلى وتلقيها السلام

وقد كان قبل ذلك قد حول «القبلة» تجاه ليلى حين قال:

أتوجه نحوها بوجهي

وإن كان المصلى خلفي

ليس هذا شرك ولكن

عظم حبي أعيا الطبيب

ما أعظم هذا الحب وتأثيره، فإنه يأخذ بالناس إلى عوالم لن يدركها إلا من عانى مرارتها، وقليل ما هم، فلا تلوموا في ذلك ولا تنكروا بحدة، فالرب غفور، والأيام خير واعظ، والقلب متقلب، وعند المروي عن «أبي حازم» بعض العزاء، وكثير من الراحة، وقد نقل موقف تلك «الجميلة» عند رمي الجمار، وخلّده بالقول:

كشفت عن وجهها الحسن

وارتدت رداءً رقيقاً

من اللائي لم يحججن ابتغاء الأجر

وإنما لفتنة القلوب

اللهم إن قلبي حائر، بي شوق إلى تلك الرحاب، وتوق منصرف مع ابن القيم، وقد قال:

فكم لله من دمعة مسكوبة

وأخرى على آثارها تتقدم

وقد شرقت عين المحب بدمعها

فينظر من بين الدموع ويسجم

وراحوا إلى عرفة يرجون رحمة

ومغفرة ممن يجود ويكرم

فلله ذاك الموقف الأعظم الذي

كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم

ويدنو به الجبار جل جلاله

يباهي بهم أملاكه فهو أكرم

يقول عبادي قد أتوني محبة

وإني بهم بر أجود وأكرم

فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم

وأعطيهم ما أملوه وأنعم

فبشراكم يا أهل ذا الموقف

الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم

فكم من عتيق فيه كمل عتقه

وآخر يستسعي وربك أكرم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة